جعل الكتابة الأكاديمية أكثر جاذبية
## أستاذية الكتابة: كيف يُلهمنا جيمس لانغ لنكتب كالمعلمين؟
في عالمنا العربي، كثيراً ما نُغرم بالأسلوب المُعقّد في الكتابة، ظنّاً منّا أنه دليل على العمق الفكري. لكن، ماذا لو كانت البساطة والوضوح هما السبيل الحقيقي لنشر المعرفة وإحداث التأثير؟ هذا هو ما يدعونا إليه الكاتب والأكاديمي الأمريكي جيمس لانغ في كتابه الجديد “الكتابة مثل المعلم”.
ولعلّ قصة لانغ نفسها تُشكّل دليلاً ساطعاً على أهمية تبسيط الأفكار. فبعد أن حقق كتابه الأول “في الحِصّة” نجاحاً مُلفتاً، شجّعته مُحرّرته على الكتابة عن ظاهرة الغشّ الأكاديمي. ورغم تردّده في البداية، إلا أنّه سرعان ما انخرط في الموضوع وأصدر كتابه الشهير “دروس الغش: التعلّم من الغشّ الأكاديمي”.
لم يقتصر نجاح الكتاب على الولايات المتحدة، بل تخطّى حدودها ليصل إلى جامعات ودول عربية مثل الأردن، وليُناقش في مُنتديات عالمية كالأمم المتحدة. فقد لامس الكتاب وتراً حساساً في النظام التعليمي العالمي، وهو ما يُفسّر الإقبال الكبير عليه.
ولكن، ما سرّ تميّز لانغ ككاتب؟ يكمن السرّ في اعتماده على أسلوب مُباشر وسلس، مُستمدّ من خبرته الطويلة في التدريس. فهو لا يكتُب كباحث مُتخصّص يُخاطب نخبة مُغلقة، بل كأستاذ مُحنّك يُريد إيصال أفكاره إلى أكبر شريحة مُمكنة من القرّاء.
ويُشبّه لانغ علاقته بالكتابة بعلاقته بالقهوة، فهي رفيق دربه الذي لا يُفارقه. فهو يكتب باستمرار، ليس لمجرّد الكتابة، بل لاستكشاف أفكاره وتجاربه، وتحويلها إلى كلمات مفهومة للجميع.
وقد عانى لانغ مؤخراً من أزمة صحية خطيرة كادت أن تُنهي حياته. لكنّه، وبفضل الرعاية الطبية ودعم عائلته، استطاع أن يتجاوز المحنة ويعود إلى ممارسة شغفه في الكتابة والتدريس.
وفي كتابه الجديد ”الكتابة مثل المعلم”، يُقدّم لانغ خلاصة تجربته الغنية في عالم الكتابة والتدريس. فهو يُؤمن بأنّ على الكُتّاب، وخاصة الأكاديميين منهم، تبنّي أسلوب واضح وبسيط، مُستمدّ من مبادئ التدريس الفعّال. فكما يُبسّط الأستاذ مادّته لطلّابه، على الكاتب أن يُبسّط أفكاره لقرّائه، ليضمن وصولها إليهم بوضوح وسهولة.
ويُؤكّد لانغ على أهمية هذا التوجّه، خاصة في عصرنا الحالي الذي يشهد طفرة هائلة في المعلومات. فلم يعد كافياً أن نكتب بأسلوب مُعقّد ونُقنع أنفسنا بأننا نُخاطب النُخبة. بل علينا أن نُدرك أنّ مهمتنا ككُتّاب هي تبسيط المعرفة ونشرها على نطاق واسع، لنُساهم في بناء مجتمع مُثقّف وواعٍ.
الكتابة الأكاديمية: بين غموض المصطلحات ووضوح الفكرة
كثيراً ما نجد أنفسنا كقراء، وخاصة في المجال الأكاديمي، أمام نصوصٍ تبدو كأنها كُتبت بلغةٍ غريبةٍ لا نفهمها. فبدلاً من أن تكون هذه النصوص جسراً ينقلنا إلى عالم المعرفة، تتحول إلى جدارٍ يحجب عنا فهم الأفكار.
لا شك أن بعض الباحثين يسعون لنشر معرفتهم على نطاقٍ واسع، لكنهم يصطدمون بصعوبة صياغة أفكارهم بطريقةٍ واضحةٍ وسلسة. هنا تبرز أهمية التعلم من خبرات رواد الكتابة البسيطة والعميقة في آنٍ واحد، مثل تريمبل ولانج.
يرى تريمبل أن قلة التدقيق والتنقيح هي السبب الرئيسي وراء تعقيد الكتابة الأكاديمية. فكما أننا نصبح ما نأكله، فإننا نكتب ما نقرأه. أما لانج، فيُلقي الضوء على نقطةٍ جوهرية، وهي أن العديد من الأكاديميين يفتقرون ببساطةٍ إلى مهارات الكتابة الفعالة. ولعل كتاب لانج “الكتابة كمُعلّم” هو أفضل مثالٍ على أسلوبه الرائع في التعبير عن الأفكار بطريقةٍ واضحة وسهلة الفهم. فهو ينطلق مما يعرفه الأكاديميون بالفعل، ثم يُعلّمهم مهاراتٍ جديدة بطريقةٍ ذكية ومبتكرة.
إن مسؤولية الباحث لا تقتصر على إجراء البحث فقط، بل تتعداه إلى نشر نتائجه بطريقةٍ يستطيع الجميع فهمها. فالقارئ ليس مطالباً بفك رموز النصوص المعقدة، بل من حقه أن يصل إلى المعلومة بسلاسةٍ ويسر.
هناك اعتقاد خاطئ بأن البساطة في الكتابة تعني تبسيط الأفكار، أو أن كثرة المصطلحات تدل على عمق البحث. فالأمر لا يتعلق بالتخلي عن الدقة العلمية، بل بتقديمها بطريقةٍ أكثر جاذبية وفهمًا.
إن وضوح أسلوب لانج يجعل قراءة نصوصه تجربةً ممتعة، فهو يُدرك أن الوضوح حقٌ للقارئ وواجبٌ على الكاتب. وكما قال تريمبل: ”القراء ليسوا مطالبين ببذل جهدٍ كبيرٍ لفهم ما نكتبه”.
إن الحاجة ملحة إلى إحداث ثورة في الكتابة الأكاديمية، ثورة تُعيد للغة دورها في نقل المعرفة بكل وضوحٍ وسهولة. فكما قال إي. بي. وايت: “الوضوح هو أقرب الفضائل إلى الكتابة الجيدة”.
إن الهدف ليس التوقف عن استخدام المصطلحات التقنية، بل استخدامها بطريقةٍ لا تُعيق فهم النص. فالمشكلة لا تكمن في الكلمات نفسها، بل في طريقة بنائها داخل الجملة.
يقول ويليام بيمين، عليم اللغة في جامعة مينيسوتا، إن بعض اللغات تعتمد بشكلٍ كبير على بنية الجملة، بينما تتمتع لغاتٌ أخرى بمرونةٍ أكبر بسبب نظام التصريف. فاللغة الإنجليزية، على سبيل المثال، تعتمد بشكلٍ أساسي على بنية الجملة، مما يجعل من الضروري إتقان هذه البنية لضمان وضوح الكتابة.
ويؤكد جورج جوبين، الأستاذ في جامعة ديوك، على أهمية بنية الجملة في الكتابة، مشبهاً إياها بأهمية الموقع في العقارات. فإتقان بنية الجملة هو الأساس الذي يُبنى عليه النص الواضح والسلس.
إن الكتابة مهارةٌ يمكن تعلّمها وتطويرها، وإتقان اللغة لا يعني التحدث بطلاقةٍ فحسب، بل يتعداه إلى القدرة على التعبير عن الأفكار بطريقةٍ واضحة ومؤثرة.