الحزن على الشاشة الصغيرة: عندما أصبح الحديث عن الفقدان جزءًا من الترفيه
هل تذكرون تلك الأيام التي كان فيها الحزن على شاشة التلفزيون مجرد ذكرى عابرة؟ مثل شبح رحل تاركًا خلفه صدى خافتًا؟ في الماضي، كانت المسلسلات التلفزيونية تتجنب الخوض في عواطف الحزن بعمق، وكأنها جرح مفتوح يخشى الجميع لمسه. تخيلوا مسلسل “عائلة برادي” الشهير، أين اختفت زوجة مايك الأولى في ظروف غامضة، تاركة وراءها ذكرى باهتة وصورة يتيمة؟
لكن المشهد تغير، وأصبح الحزن ضيفًا دائمًا على الشاشة الصغيرة، يتجلى في مسلسلات ناجحة مثل “Shrinking” و “This Is Us” و”The Leftovers” و “After Life”. حتى المسرح انضم إلى هذه الموجة بعروض مؤثرة مثل “Sorry for Your Loss” التي تدور حول فقدان طفل. ولم يعد الحديث عن الحزن مقتصرًا على الدراما، بل وجد طريقه إلى البرامج الحوارية والبودكاست، مثل برنامج أندرسون كوبر “All There Is” الذي يكسر حاجز الصمت حول هذه التجربة الإنسانية المؤلمة.
يقول مايكل كروز كاين، مؤلف مسرحية “Sorry for Your Loss” المستوحاة من تجربته الشخصية مع فقدان ابنه الرضيع: “الحزن هو القاسم المشترك الذي يوحدنا جميعًا”. وتؤكد دراسة أجرتها جامعة كامبريدج أن كل حالة وفاة تؤثر على تسعة أشخاص كمعدل، مما يعني أن الملايين حول العالم يعانون في صمت. وقد فاقمت أزمة كوفيد-19 من حدة هذا الحزن الجماعي، ناهيك عن تفشي وباء الفنتانيل الذي أودى بحياة الكثيرين.
لم يعد تجاهل الحزن خيارًا، بل أصبح من الضروري التحدث عنه بصراحة لمواجهته والتغلب عليه. ففي نسخة معاصرة من مسلسل “عائلة برادي”، قد يلجأ الأطفال إلى معالج نفسي لمساعدتهم على التعامل مع فقدان والدتهم، وقد يحتفظ مايك وكارول بصور أزواجهما الراحلين كتعبير عن الحب والذكرى.
في مسلسل “Shrinking” على منصة Apple TV+، نشاهد معالجًا نفسيًا يجسد دوره جيسون سيجل، وهو يحاول التأقلم مع فقدان زوجته ودعم ابنته في رحلتها مع الحزن. وتقول ليتسا ويليامز، المؤسسة المشاركة لموقع “What’s Your Grief؟”: ”بدأت المزيد من المسلسلات في التعامل مع الحزن بطريقة أكثر واقعية، مُظهرةً التعقيدات والغضب والصراع الداخلي الذي يرافقه”.
أما مسلسل “After Life” على منصة Netflix، فيأخذنا في رحلة عاطفية فوضوية مع توني، الذي يلعب دوره ريكي جيرفيس، وهو رجل يفكر في الانتحار بعد وفاة زوجته. ولا يتعلق الأمر بالتغلب على الحزن بسرعة، بل بمواجهته بكل ما فيه من ألم وغضب وحيرة. وتقول مستشارة الحزن شارون جرين وات: “يتحدث المسلسل عن أهمية التواصل البشري، خاصة في أوقات الحزن، وعن ضرورة احتواء هذا الحزن والتعايش معه”.
وتؤكد كيم روتس، رئيسة تحرير موقع “TVLine”، أن الحزن أصبح موضوعًا شائعًا في المسلسلات التلفزيونية، وأنه لم يعد من المحرمات التحدث عنه. وتقول: “أعتقد أننا أصبحنا أكثر انفتاحًا ونشعر بمزيد من الراحة في مشاركة مشاعرنا مع الآخرين”.
ولعل انتشار منصات البث المباشر ساهم في ظهور محتوى أكثر جرأة وواقعية، يعكس التجارب الإنسانية بكل تعقيداتها. فقد أصبح من الممكن الآن تناول مواضيع كانت في السابق تُعتبر من الطابوهات، مثل الحزن والقلق والعلاقات المعقدة.
وتلعب التحديات الاجتماعية دورًا كبيرًا في تسليط الضوء على الحزن، خاصة مع تفشي وباء الفنتانيل الذي أودى بحياة الكثيرين. وتقول كلوديا فريزيل، التي تقود مجموعة دعم للمتضررين من الإدمان والحزن: “إن رؤية تجربتك على الشاشة أمر مُريح للغاية، فهو يُشعرك بأنك لست وحدك”.
وهكذا، أصبحت المسلسلات التلفزيونية بمثابة جلسات علاجية جماعية، توفر مساحة آمنة للتعبير عن الحزن ومشاركته مع الآخرين. فقد حان الوقت لنتوقف عن تجاهل هذه التجربة الإنسانية الأساسية، ولنبدأ في التحدث عنها بصراحة ورحمة.