تجاوز “السعادة المزيفة”: كيف نواجه الإيجابية السامة بواقعية؟
“عش حياتك، اضحك، أحب” .. “الأجواء الإيجابية فقط” .. “اختر السعادة”.
تحيط بنا هذه العبارات في كل مكان، من استوديوهات اليوغا إلى عيادات الأطباء وحتى على منصات التواصل الاجتماعي. تدعونا جميعها لعيش حياة مثالية سعيدة، ولكن ماذا لو لم نكن نشعر بذلك؟
يرى “ديف تارنوفسكي”، كاتب ومدافع عن الصحة النفسية، أن هذا الإصرار المجتمعي على ما يسميه “الإيجابية السامة” أشبه بغسيل دماغ. وقد عبّر عن رفضه لهذه الفكرة من خلال كتابه “السلوكيات الإيجابية السامة” وحسابه الشهير على انستغرام “تأكيدات مخيبة للآمال” الذي تجاوز مليوني متابع في وقت قياسي.
في كتابه الجديد “تأكيدات مخيبة للآمال: توقف عن مطاردة أحلامك!”، يوسع تارنوفسكي نطاق تأملاته ليجمع بين صور الطبيعة الهادئة وعبارات واقعية بعيدة عن التزييف. يهدف من خلال ذلك إلى مخاطبة كل من يشعر بالضيق من ضغط ”السعادة المصطنعة”.
يؤكد تارنوفسكي على أهمية التعامل مع المشاعر السلبية بدلاً من كبتها، مشيراً إلى ضرورة فهمها و تقبلها كجزء طبيعي من التجربة البشرية.
تتجلى هذه الفكرة في عبارات مثل: “بإمكانك فعلها، ولكنك على الأرجح لن تفعل!” و “كفى تفكيراً مفرطاً، أنت الشخص الوحيد الذي يهتم”.
يشارك تارنوفسكي، الذي عانى من الاكتئاب و اضطراب ثنائي القطب و اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، تجربته الشخصية مع هذه التأكيدات الواقعية، مؤكداً على فعاليتها في مساعدته على التعامل مع تحدياته النفسية بشكل أكثر صحة و فعالية.
في حوار مع CNN، أوضح تارنوفسكي مفهومه “إحداث الضوء من خلال تسليط الضوء” قائلاً:
( تم اختصار المقابلة وتحريرها من أجل الوضوح)
CNN: كيف تفسر مفهوم “إحداث الضوء من خلال تسليط الضوء”؟
ديف تارنوفسكي: …
## التصدي لثقافة الإيجابية السامة: رحلة واقعية نحو تقبل الذات
غمرني ظلام كثيف عندما تلقيت تشخيصي باضطراب ثنائي القطب. بدأت أقرأ عن هذا الاضطراب، ووجدت انعكاسًا لنفسي في كل سطر. في ذلك الوقت، لم تكن صفحتي على انستغرام ”Disappointing Affirmations” قد رأت النور بعد، لكنني كنت أُعدّ منشوراتٍ ساخرة لصفحات أخرى أديرها منذ سنوات، والتي تتناول مواضيع مثل الاكتئاب، والقلق، ونوبات الهلع، ومتلازمة المحتال، وغيرها. من خلال “Disappointing Affirmations”، تمكنت من عرض أفكار “سلبية” مختلفة، وقصص قديمة، وأسوأ السيناريوهات – كل ذلك بنبرة ساخرة.
أنا شخص متشائم بطبعي - أتوقع الأسوأ دائمًا. حتى في أصغر الأمور، مثل “هل سيكون المتجر مفتوحًا بعد؟ أراهن أنه مغلق. لكنني سأتحقق على أي حال… بالطبع، إنه مغلق! لماذا أرهقت نفسي؟”
يقولون: “لا تتوقع شيئًا ولن تشعر بخيبة أمل أبدًا”. قد يكون هذا صحيحًا بالنسبة للبعض، لكنني وجدت الحياة مليئة بخيبات الأمل.
هذا لا يعني أنني لم أعرف السعادة، لكنها لم تدم طويلًا. فمهما كانت الأمور جيدة، كنت أنتظر دائمًا اللحظة التي ستتغير فيها إلى الأسوأ.
سؤال: كيف كان لواقعيتك في الحياة دور في مساعدتك على التعامل مع الاكتئاب؟
جواب: أعتقد أن مفتاح التعامل مع الاكتئاب هو تقبله. قد يبدو هذا غريبًا، لكن عندما أجد نفسي أُسحب إلى دوامة الاكتئاب، كما وصفها لي صديق قديم، أتركه يأخذ مجراه. في الماضي، عندما كنت أقاوم الاكتئاب، كنت أشعر بالعجز والكراهية تجاه نفسي.
أرى الاكتئاب الآن كجزء مني، ويجب عليّ تقبله تمامًا كما أتقبل جوانبي الأخرى. أود أن أشكر جميع المعالجين النفسيين الذين ساعدوني على مر السنين. فبفضل دعمهم، تمكنت من الغوص عميقًا في نفسي واستكشافها. بالإضافة إلى ذلك، أتبع نظامًا دوائيًا يساعدني في السيطرة على حدة الاكتئاب ومنع القلق/الهوس من الخروج عن السيطرة – في معظم الأوقات.
على مدار العامين الماضيين، تعلمت أهمية تقبل الذات. هذه هي الرسالة الخفية التي أود إيصالها من خلال كتابي ”الثمانون تأكيدًا المخيب للآمال” – الانتقال من الخوف من عدم كونك جيدًا بما يكفي إلى تقبل نفسك كما أنت، حتى لو كان ذلك يعني تقبل حقيقة أنك لن تكون مثاليًا أبدًا.
في الماضي، كنت أعتقد أن الضعف عيب، لكنني أدركت الآن أنه قوة هائلة. لم أكن لأتمكن من تحويل ما كنت أعتقد أنه نقاط ضعف إلى قوة لولا سنوات من العلاج وتقبل الذات.
التصدي لثقافة الإيجابية السامة: رحلة من العتمة إلى الواقعية
في عالمٍ يغمره التفاؤل المصطنع، يبرز صوت الكاتب والفنان الكوميدي ديفيد تارنوفسكي ليقدم لنا جرعةً مُركّزة من الواقعية، مُتحدّيًا بذلك ثقافة “الإيجابية السامة” التي تُهيمن على حياتنا.
في كتابه الجديد “التأكيدات المُحبطة”، يُقدّم تارنوفسكي مجموعة من العبارات التي تُجسّد الواقع بكلّ مرارته، مُخاطبًا أولئك الذين سئموا من شعارات التفاؤل الزائف.
في حوارٍ صريح، يتحدث تارنوفسكي عن دوافع كتابته، وتأثيره على القرّاء، ورحلته الشخصية مع الاكتئاب.
CNN: ما هي أبرز ردود الفعل التي تلقيتها من جمهورك على كتابك “التأكيدات المُحبطة”؟
تارنوفسكي: تلقّيت رسائل مؤثرة من قرّاء أخبروني فيها أن كتابي أنقذ حياتهم. يؤلمني سماع ذلك، وفي الوقت ذاته، أشعر بالامتنان لأنني تمكّنت من الوصول إليهم. لطالما عانيت من الأفكار الانتحارية، وكدتُ أستسلم لها في مراتٍ عديدة. أشعر بالسعادة لأنني لم أفعل، ولأنني تمكّنت من مدّ يد العون للآخرين.
CNN: من برأيك سيجد صدىً لكلماته في كتابك؟
تارنوفسكي: أعتقد أن كتابي سيُخاطب أولئك الذين يمرّون بتجارب مماثلة لتجربتي، سواءً أحبّوني أم لا. أولئك الذين يمتلكون حسّ فكاهةً أسود، أو ببساطة، حسّ فكاهةٍ واقعي.
أقلقني دائمًا ألاّ يفهم بعض القرّاء السخرية السوداء في كتاباتي. فعندما أقول “لا تحزنوا، أنتم تُزعجون الجميع”، فأنا لا أقصد ذلك حرفيًا. إنها مُجرّد صرخة نابعة من سنواتٍ من التظاهر بالسعادة من أجل إرضاء الآخرين.
CNN: ما هو الفرق بين “التأكيدات المُحبطة” و”التأكيدات الإيجابية”؟
تارنوفسكي: أنا لست ضدّ “التأكيدات الإيجابية” بالمجمل، بل أرفض ”الإيجابية السامة” التي تُجبرنا على تزييف مشاعرنا. “التأكيدات المُحبطة” ليست سوى انعكاسٍ لواقعية الحياة بكلّ مرارتها. أنا لست شخصًا مُتفائلًا بطبعي، والتأكيدات التي تُحاول غسل دماغي لإقناعي بأنّ كلّ شيءٍ على ما يُرام لا تُجدي نفعًا معي.
أعلم أنّ الحياة قاسية في كثيرٍ من الأحيان، ولا أريد أن أشعر بالسوء حيال ذلك.
CNN: هل تعتقد أن قرّاءك سيتفهّمون السياق الشخصي وراء كلّ تأكيد مُحبط في كتابك؟
تارنوفسكي: قد لا يعرف القرّاء القصة الكاملة وراء كلّ عبارة، لكنّهم سيشعرون بأنّها تُعبّر عنهم، وهذا هو الأهمّ بالنسبة لي. أحاول أن أكون الشخص الذي تمنّيتُ وجوده بجانبي عندما كنتُ طفلًا.
CNN: كيف تعاملتَ مع الاكتئاب في طفولتك؟
تارنوفسكي: كانت الكتابة ملاذي الآمن. لطالما شعرتُ بأنني مختلف، خصوصًا بعد خيانة قاسية تعرّضتُ لها من مجموعة من الأصدقاء في المدرسة الإعدادية. انطويتُ على نفسي، وبدأتُ في كتابة رواياتٍ غير مُكتملة عن شخصياتٍ “مختلفة” أو “خاصة” تُعاني من الوَحدة والعُزلة.
كيف تعيش حياةً مُرضية حقًا؟
كثيرًا ما نُذكّر بأنفسنا بأن “الحياة قصيرة”، وكأنها دعوة مستعجلة للعيش بتهوّر. لكن ماذا لو لم تكن الحياة قصيرة بالضرورة؟ ماذا لو كانت طويلة بما يكفي لتحقيق كل ما نصبو إليه، ولكننا نضيع وقتنا في البحث عن السعادة في الأماكن الخاطئة؟
بدلاً من السعي المحموم وراء تجارب عابرة، لماذا لا نُركز على بناء حياة مُرضية حقًا؟ حياة نستيقظ فيها كل صباح بشغف، وننام كل ليلة بقلب قانع.
يقول الفيلسوف الألماني نيتشه: “إذا عرفتَ لماذا، يمكنك أن تتحمل أي كيف”. فبدلاً من البحث عن “كيف” تعيش، ابحث عن “لماذا”. ما هو هدفك من هذه الحياة؟ ما الذي يجعلك تستيقظ كل صباح بنشاط وحماس؟
قد يكون هدفك بسيطًا كرعاية عائلتك، أو عظيمًا كترك بصمة إيجابية في العالم. المهم أن يكون هدفك حقيقيًا، ينبع من داخلك، ويمنحك شعورًا بالرضا.
لا تدع ضغوط المجتمع تُملي عليك كيف تعيش. لا بأس إن لم تكن مهتمًا بالسفر حول العالم، أو بتحقيق ثروة طائلة. ركز على ما يُسعدك أنت، وابنِ حياتك حوله.
تذكر، الحياة ليست بروفة. إنها فرصتك الوحيدة لتحقيق ذاتك وعيش حياة مُرضية حقًا. فلا تُضيعها.