كيف تُشكل الاستعارات طريقة تفكيرنا؟
للغة سحرٌ خفيّ، فهي قادرة على تشكيل طريقة تفكيرنا وتوجيهها دون أن نشعر. فالكلمات التي ننتقيها للتعبير عن أفكارنا ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أدوات ترسم حدود تصوراتنا وتؤثر على اختياراتنا وقراراتنا.
ومن بين الظواهر اللغوية الأكثر تأثيراً نجد “الاستعارات”، تلك التشبيهات التي تربط بين عالمين مختلفين كلياً، لتُبرز أوجه شبه خفية وتضفي رونقاً على حديثنا.
ولا شك أنك تستخدم الاستعارات يومياً دون أن تدري! فنحن نصف الحياة بـ “الرحلة”، وننظر إلى العالم على أنه “مسرح”، ونعتبر الوقت “كنزاً ثميناً”. ونصف الأشخاص بـ “قلوب من ذهب” أو “ذئاب في ثياب حملان”.
ورغم بساطة هذه التشبيهات، إلا أن تأثيرها يتجاوز مجرد التجميل اللغوي، ليصل إلى جذور إدراكنا للواقع. فالاستعارات تُؤطر طريقة تفكيرنا، وتُلون مشاعرنا، وتُوجه سلوكنا بشكلٍ قد يصعب تصديقه.
“فكرة مُشرقة” أم “بذرة إبداع”؟
لنفهم تأثير الاستعارات بشكلٍ أعمق، لنأخذ مثالاً من عالم الأفكار الجديدة. فعندما نصف فكرة جديدة بـ “فكرة مُشرقة” أو نقول إنها “سطعت في ذهني كالشعاع”، فإننا نستخدم استعارة “المصباح الكهربائي”.
وقد انتشرت هذه الاستعارة بشكلٍ واسع، حتى أصبحت جزءاً من ثقافتنا الشعبية، فنراها في الرسوم المتحركة والإعلانات، وحتى في شعارات بعض الشركات.
ولكن، هل فكرت يوماً في الرسالة الضمنية التي تحملها هذه الاستعارة؟
إن تشبيه الأفكار بـ “المصباح الكهربائي” يوحي بأن الإبداع عملية آنية وسحرية، تحدث كـ “وميض خاطف” لا دخل للعقل فيه.
وهذا التصور، وإن كان شائعاً، إلا أنه يُغفل حقيقة هامة، وهي أن الأفكار الجديدة ليست وليدة الصدفة، بل هي نتاج رحلة طويلة من البحث والتفكير والتجريب.
وإذا أردنا تشبيهاً أكثر دقة، فيمكننا أن نستعير صورة “البذرة” لوصف الأفكار الجديدة. فكما تحتاج البذرة إلى أرض خصبة ورعاية مستمرة لتنمو وتُثمر، كذلك تحتاج الأفكار إلى بيئة محفزة وجهود دؤوبة لتنضج وتتحول إلى إنجازات ملموسة.
دراسات تؤكد قوة الاستعارات
وقد أثبتت العديد من الدراسات العلمية التأثير المذهل للاستعارات على طريقة تفكيرنا. ففي دراسة أجريت عام 2017، قُسم المشاركون إلى ثلاث مجموعات، وطُلب منهم قراءة قصة قصيرة عن العالم آلان تورينج، مخترع الحاسوب.
و تم استخدام استعارات مختلفة في كل قصة لوصف عملية الإبداع لدى تورينج. فالمجموعة الأولى قرأت قصة وصفت أفكاره بـ ”المصابيح المُشرقة”، بينما قرأت المجموعة الثانية قصة استخدمت استعارة “البذرة” لوصف أفكاره. أما المجموعة الثالثة، فقرأت قصة محايدة لم تستخدم أي استعارات.
وكانت النتائج مذهلة! فقد أظهرت الدراسة أن المجموعة التي قرأت قصة “المصباح المُشرق” اعتبرت إنجاز تورينج استثنائياً وفريداً من نوعه، بينما رأت المجموعة التي قرأت قصة “البذرة” أن إنجازه كان نتاجاً طبيعياً لعملية طويلة من البحث والتفكير.
اختر كلماتك بعناية
إن هذه الدراسة وغيرها الكثير تُثبت أن الكلمات التي نستخدمها ليست محايدة، بل هي أدوات قوية تُشكل إدراكنا للواقع وتُؤثر على سلوكنا.
لذلك، فمن المهم أن نُعيد التفكير في الاستعارات التي نستخدمها في حياتنا اليومية، وأن نختار كلماتنا بعناية، فنحن لا نُريد أن نقع ضحية لتأثيراتها الخفية دون أن ندري.