ما يكشفه حفرية لوسي التي يبلغ عمرها 3.2 مليون سنة عن العري والعار
## لوسي.. هل كانت ”أمنا جميعًا” عارية حقًا؟
منذ خمسة عقود، أهدتنا تنزانيا اكتشافًا أثريًا مذهلاً: هيكل عظمي شبه مكتمل لأنثى عمرها 3.2 مليون عام، تنتمي إلى جنس أوسترالوبيثيكوس أفارينسيس. أطلق عليها العلماء اسم “لوسي”، واحتفى بها العالم كـ “أمنا جميعًا”.
لكن كيف بدت لوسي حقًا؟ تصوّرها الرسوم التوضيحية الشائعة بفراء كثيف بني محمر، لكن هل هذا صحيح؟
تشير الدراسات الحديثة، خاصة في مجال التحليل الجيني، إلى أن لوسي ربما كانت شبه عارية، أو على الأقل مغطاة بشعر خفيف جدًا. فقد أشارت دراسة علمية إلى أن أسلافنا فقدوا معظم شعر أجسامهم منذ 3 إلى 4 ملايين سنة، ولم يرتدوا الملابس إلا في وقت لاحق.
لكن السؤال الأهم: لماذا نفترض أن أسلافنا كانوا يرتدون الفراء؟ ربما يكشف هذا الافتراض المتأصل فينا عن نظرتنا نحن – كبشر معاصرين – للعري، ونقله لا شعوريًا إلى الماضي.
## من فقدان الفراء إلى اكتشاف العار
تفسر العديد من النظريات فقدان الإنسان لشعر جسمه، منها تنظيم حرارة الجسم، و التغيرات الفسيولوجية، وحتى جذب الشريك. لكن يبقى السؤال: متى ولماذا بدأ الإنسان بإرتداء الملابس؟
تشير إحدى النظريات إلى أن تطور الدماغ البشري، الذي يتطلب كمية هائلة من الطاقة، دفع الإنسان الأول إلى تبني “استراتيجية الترابط الزوجي” لتسهيل رعاية الأطفال. لكن هذا الترابط جاء مع تحدياته، فقد فتح الباب أمام احتمالية الخيانة وهدد استقرار العائلة.
وهنا ظهر “العار” كآلية اجتماعية لحماية هذا الترابط. يوضح عالم الأنثروبولوجيا دانيال إم تي فيسلر أن “جسد الإنسان هو إعلان جنسي بحد ذاته… العري يشكل تهديدًا للعقد الاجتماعي”.
## العري بين المجتمع والفن
مع تطور الحضارة الإنسانية، أصبح من الضروري وضع قواعد للتحكم في السلوك الجنسي، خاصة فيما يتعلق بالنساء. وهكذا ارتبط مفهوم “العري” بالعار وخرق الأعراف المجتمعية.
لكن ما يُعتبر عارياً في ثقافة ما، قد لا يكون كذلك في ثقافة أخرى. على سبيل المثال، كان الكشف عن الكاحلين في إنجلترا الفيكتورية فضيحة، بينما اليوم أصبح أمراً طبيعياً.
في الفن، لا يعكس العري بالضرورة الواقع. فقد ميز الناقد الفني جون بيرجر بين “العري” كمجرد كون الإنسان بدون ملابس، و ”العري” كشكل فني يستغل جسد المرأة لإمتاع الرجل.
لذا، عندما ننظر إلى “لوسي” ونتصورها بشعر كثيف، علينا أن نتساءل: هل هذه هي حقيقتها أم مجرد انعكاس لثقافتنا ونظرتنا للجسد والعار؟
لوسي المُغطاة: حكاية العُري والعار في مرآة التطور البشري
تُثير قضية العُري جدلاً واسعاً في مجتمعاتنا، فبينما يراه البعض مظهراً من مظاهر الحرية والتعبير عن الذات، يعتبره آخرون خروجاً عن الأعراف والتقاليد. لكن ماذا عن أسلافنا القدماء؟ هل كانوا يرون العُري بنفس الطريقة؟
في كتابها “العُري: تشريح ثقافي”، تُسلط الكاتبة روث باركان الضوء على فكرة أن العُري ليس مجرد حالة جسدية، بل هو مفهوم مُتشرب بالمعاني والتوقعات الاجتماعية. وتُشير إلى أن “الشعور بالعُري” هو إحساس مُركب يتضمن إدراكاً مُختلفاً لحرارة الجسد وحركة الهواء من حوله، وفقدان الحدود المُعتادة بين الجسد والعالم الخارجي، بالإضافة إلى تأثير نظرات الآخرين، سواء كانت حقيقية أو مُتخيلة.
وبالعودة إلى لوسي، تلك الحفرية الشهيرة التي تُعتبر إحدى أهمّ أسلاف الإنسان، نجد أنّه على الرغم من قدمها وعراقتها، إلا أنّه تمّ تصويرها بطرق تعكس مفاهيمنا الحديثة عن الأسرة والأمومة. فعلى سبيل المثال، نجد العديد من الصور تُظهر لوسي بجانب رفيق ذكر، أو مع رفيق وأطفال، وغالباً ما تكون تعابير وجهها هادئة وراضية، مما يعكس صورة مثالية للأمومة.
وقد انتقد بعض العلماء هذا التوجه في تصوير أسلافنا، واعتبروه نوعاً من “الخيال العلمي المُثير”، حيث يحاول الباحثون ملء الفراغات في معلوماتهم بافتراضاتهم الخاصة عن طبيعة العلاقات بين الرجال والنساء في الماضي.
وفي محاولة لكسر هذه الصورة النمطية، قام فريق من الباحثين في عام 2021 بإعادة بناء هيكل لوسي بطريقة مُختلفة، مُعتمدين على أحدث ما توصل إليه العلم، ومُركزين على إبراز الحقائق العلمية بدلاً من ملء الفراغات بالخيال.
وقد قام النحات غابرييل فيناس، أحد أعضاء الفريق، بنحت تمثال للوسي بعنوان “سانتا لوسيا”، حيث تظهر لوسي عارية ومُغطاة بقطعة قماش شفافة، في إشارة إلى الغموض الذي لا يزال يُحيط بشكلها الحقيقي.
إنّ صورة لوسي المُغطاة تُثير تساؤلات عميقة عن العلاقة المُعقدة بين العُري والتغطية، والجنس والعار، وتُذكرنا بأنّ نظرتنا للتاريخ تتأثر بشكل كبير بمفاهيمنا الحديثة.