## جيل هشّ: هل يُفرط الآباء في حماية أطفالهم؟
“ما يحتاجه الأطفال هو مزيد من التنظيم!”
كثيراً ما أسمع هذه العبارة تتردد على لسان مدربيّ في فرق الشباب الرياضية. ومع احترامي الشديد لهم، أعتقد أنهم مخطئون. فما يحتاجه أطفال اليوم هو *أقل* من التنظيم، أقل من التدخل، وأقل من الرقابة المُفرطة.
تشير الأبحاث والدراسات، إلى جانب المُلاحظة المُباشرة، إلى أن البنية الاجتماعية الصارمة التي يُفرضها البالغون على الأطفال تُساهم بشكل كبير في تفشي مشاعر القلق والاضطرابات النفسية بينهم.
في كتابه “الجيل القلق” (2024)، يُسلط الدكتور جوناثان هايدت الضوء على هذه الظاهرة، مُؤكداً أن الإفراط في تنظيم حياة الأطفال من قِبل الآباء والمعلمين والمدربين يُعد عاملاً رئيسياً في إشعال نيران القلق المُنهك الذي يجتاح أعداداً متزايدة من الشباب.
كثيراً ما يُبالغ الآباء في حماية أطفالهم، مما يُضعف من قدرتهم على الاعتماد على أنفسهم.
المصدر: رسم كاريكاتوري بواسطة ستيف مور عبر CartoonStock
لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية تلعب دوراً هاماً في تأجيج هذه المشاعر السلبية، لكننا سنتناول تأثيرها السام في مقال آخر.
سنُركز هنا على التأثير السلبي للإفراط في تنظيم حياة الأطفال من قِبل البالغين على صحتهم النفسية، مُستعينين بأمثلة من عالم الرياضة.
## أزمة الصحة النفسية: أرقام مُقلقة
قبل الخوض في تفاصيل عالم الرياضة، دعونا نُلقي نظرة على بعض الإحصائيات المُقلقة التي تُبرز حجم أزمة الصحة النفسية التي يُعاني منها الأطفال اليوم. جميع البيانات التالية تعكس ما حدث منذ عام 2010، وفقاً لبحث استشهد به هايدت (2024):
* ارتفعت حالات الاكتئاب الحاد المُبلغ عنها بين الفتيات في الولايات المتحدة بنسبة 145%، وبين الأولاد بنسبة 161%.
* شهدت الجامعات الأمريكية زيادة بنسبة 134% في حالات القلق المُبلغ عنها، وزيادة بنسبة 106% في حالات الاكتئاب بين الطلاب من جميع الجنسين.
* ارتفعت معدلات الانتحار بين المراهقين الصغار (10-14 عاماً) في الولايات المتحدة بنسبة 91% بين الأولاد و167% بين الفتيات.
للأسف، تُشير البيانات إلى أن هذه الأزمة ليست حِكراً على الولايات المتحدة، بل تُشكل مصدر قلق عالمي.
## أطفال مُجهدون: مشاهد مُؤلمة
ينتشر القلق بين الشباب اليوم ويمكن ملاحظته بشكل كبير في الرياضات الشبابية.
المصدر: صورة التقطها الرقيب أول دانييل شرودر عبر Common Domain من ويكيميديا كومنز
يكفي مُراقبة سلوك الشباب أثناء مُمارستهم للرياضة أو غيرها من الأنشطة لإدراك حجم المُشكلة. خلال مسيرتي المهنية التي تجاوزت 37 عاماً في مجال علم النفس السريري والرياضي، لم أرَ في حياتي هذا الكم الهائل من الأطفال الذين يُعانون من القلق والعجز عن مواجهة أبسط التحديات اليومية.
أطفال يُصابون بنوبات هلع عند انقطاع الإنترنت، ومراهقون ينهارون عند حصولهم على درجات سيئة في الامتحانات، ورياضيون صغار يبكون أو يُهاجمون زملائهم أو ينسحبون من الملعب عند ارتكابهم لأي خطأ.
هذه المشاهد المُؤلمة لم تكن شائعة قبل 5 أو 10 سنوات فقط. يُعكس هذا السلوك ضعفاً واضحاً في ضبط النفس والروح الرياضية، ويُعيق أداءهم الرياضي والأكاديمي، والأهم من ذلك، يُهدد صحتهم النفسية.
## أين انتهى استقلال الشباب؟
يتذكر الجيل الأكبر سناً بالتأكيد تلك الأيام التي كان الأطفال فيها يتمتعون بقدر أكبر من الحرية والاستقلالية. كانوا يذهبون إلى المدرسة ويُمارسون ألعابهم ويُواجهون مشاكلهم بمفردهم.
يُطلق هايدت على تلك الفترة “عصر التحرير”، حيث كان الأطفال بين سن الثامنة والرابعة عشرة يتمتعون بمساحة واسعة من الحرية بعيداً عن الرقابة المُفرطة للنظام الاجتماعي.
لكن تلك الأيام قد ولت، وحلّ محلها عصر “القلق” الذي يُعاني فيه الأطفال من تداعيات الحماية المُفرطة والتدخل المُستمر من قِبل البالغين.
كيف نبني جيلاً قوياً في عالمٍ مُفرط التدليل؟
في عالمٍ مُشبّع بالتكنولوجيا والتدليل، نواجه تحديًا متزايدًا في تربية جيلٍ يتسم بالقوة والمرونة. فبينما نسعى جاهدين لتوفير الأفضل لأطفالنا، قد نقع دون قصد في فخّ الإفراط في حمايتهم، مما يُضعف من قدرتهم على مواجهة تحديات الحياة.
مقاومة الهشاشة: صناعة جيلٍ لا ينكسر
يشير مفهوم “مقاومة الهشاشة”، الذي طرحه نسيم طالب في كتابه “مضاد الهشاشة”، إلى قدرة الفرد على التعافي من الصدمات والتحديات، بل والنمو من خلالها. ويُعدّ هذا المفهوم حجر الزاوية في بناء جيلٍ قادرٍ على التكيف والازدهار في عالمٍ مُتغير.
يُشبّه بعض الخبراء المرونة النفسية بجناح الفراشة، فكما أن الفراشة قادرة على الطيران رغم هشاشة جناحيها، كذلك يحتاج أطفالنا إلى تنمية مرونة داخلية تُمكنهم من التحليق عالياً في وجه العواصف.
دور الآباء في تعزيز مقاومة الهشاشة
يُمكن للآباء لعب دورٍ محوريّ في تعزيز مقاومة الهشاشة لدى أطفالهم، وذلك من خلال:
- منحهم مساحةً للاستقلالية: السماح للأطفال باللعب بحرية واتخاذ قراراتهم بأنفسهم، بعيدًا عن التدخل المُفرط من قِبل الوالدين.
- تشجيعهم على مواجهة التحديات: بدلاً من التدخل لحلّ جميع مشاكلهم، يُمكن للآباء توجيه أطفالهم وتشجيعهم على إيجاد حلولٍ خاصة بهم.
- تعليمهم مهارات حل المشكلات: تزويد الأطفال بالأدوات اللازمة لتحليل المشكلات وتحديد الحلول المُناسبة، مما يُعزز من ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على التغلب على الصعاب.
دور المُدرّبين في بناء جيلٍ واثق
لا يقتصر دور بناء جيلٍ قويّ على الآباء فحسب، بل يمتد ليشمل المُدرّبين الذين يُشكلون جزءًا لا يتجزأ من حياة الأطفال. ويُمكن للمُدرّبين المساهمة في تعزيز مقاومة الهشاشة من خلال:
- توفير بيئةٍ تُشجع على الاستقلالية: منح الأطفال فرصة تنظيم أنفسهم وإدارة وقتهم ومُعدّاتهم بأنفسهم.
- التواصل المُباشر مع الأطفال: بدلاً من الاعتماد على التواصل مع أولياء الأمور، يُمكن للمُدرّبين التواصل مُباشرةً مع الأطفال فيما يتعلق بالمعلومات والتوجيهات.
- تعزيز روح الفريق والتعاون: تشجيع الأطفال على العمل معًا كفريقٍ واحدٍ، مما يُنمّي لديهم مهارات التواصل وحلّ النزاعات.
بناء جيلٍ مُستعدّ للمُستقبل
إنّ بناء جيلٍ يتسم بالقوة والمرونة ليس بالأمر السهل، بل يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف، بدءًا من الأسرة والمدرسة ووصولاً إلى المُجتمع ككل. فلنعمل سويًا على خلق بيئةٍ تُمكّن أطفالنا من النموّ والازدهار، وتُؤهلهم لمواجهة تحديات المُستقبل بثقةٍ واقتدار.
دعهم يُبحرون: كيف تُهيئ أطفالك لمواجهة تحديات الحياة؟
في عالمنا سريع التغيّر، لم يعد الاكتفاء بتوفير الراحة المادية لأطفالنا كافياً. فمن الضروري أن نُسلّحهم بأدوات الاستقلالية والمرونة النفسية لمواجهة تحديات الحياة بثقة.
إنّ التدليل المُفرط يحرم أطفالنا من فرصة اكتساب مهارات حياتية أساسية. تُشير الدراسات إلى أنّ الطلاب الذين يفتقرون إلى الاستقلالية أكثر عُرضة للقلق والاكتئاب عند مواجهة ضغوط الحياة الجامعية والمهنية.
بدلاً من التدخل في كل تفاصيل حياتهم، دعونا نمنحهم مساحة آمنة للتجربة والتعلّم من أخطائهم. شجّعوهم على تنظيم وقتهم، وإدارة مهامهم الدراسية، والتعامل مع المسؤوليات اليومية بأنفسهم.
تذكروا، أنّ هدفنا كآباء ومُربّين هو إعداد أطفالنا ليكونوا أفراداً ناجحين وسعداء في الحياة. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال بناء شخصياتهم وتعزيز ثقتهم بأنفسهم. فلنمنحهم أجنحة التجربة وليس قيود التدليل.